تساؤلات قرآنية: سورة المائدة: آية 82

قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (المائدة/82).

التفسير

س): فيمن نزلت الآية الكريمة؟

1: إن هذه الآية الكريمة، نزلت في نفرٍ قدِموا على رسول الله ﷺ من نصارى الحبشة، فلما سمعوا القرآن الكريم أسلموا، واتبعوا رسول الله ﷺ، قال مجاهد رحمه الله: هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة. وعن سعيد بن جبير رحمه الله، قال: هم رُسُل النجاشي الذين أرسل بإسلامه وإسلام قومه، كانوا سبعين رجلًا اختارهم الخيِّرَ فالخيِّرَ، فدخلوا على رسول الله ﷺ، فقرأ عليهم: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)} (سورة يس)، فبكوا وعرفوا الحق، فأنزل الله فيهم: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}. الطبري

وهذا القول فيه نظر؛ لأن هذه الآية مدنية، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة. (ابن كثير)

2: قومٌ كانوا على شريعة عيسى عليه السلام، فأدركهم الإسلام، فأسلموا لما سمعوا القرآن الكريم، وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه. (الطبري).

س): {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ}: لماذا عداوة اليهود شديدة على المؤمنين؟

1: لعنادهم وجحودهم، الذي وصل إلى قتل كثير من أنبيائهم، حتى أنهم هموا بقتل رسول الله ﷺ، وسحروه، وألبوا عليه أشباههم من المشركين، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة (ابن كثير).

2: مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان، فإن قدروا على القتل فذاك، وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من المكر والكيد والحيلة، والدليل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}. (الرازي).

س): هل هناك صفة أخرى اشترك بها اليهود مع المشركين؟

نعم، قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} (البقرة/96)، فحرص اليهود على الحياة، وكراهيتهم الموت؛ لعلمهم بما لهم في الآخرة من الخزي والهوان الطويل. (الرازي).

س): {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}: من هم؟

عبدة الأوثان. (ابن الجوزي).

س): {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ}: لماذا عداوة النصارى أقل شدة على المؤمنين؟

لما في قلوبهم الرقة والرأفة التي جاءت بها شريعة عيسى عليه السلام، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} (الحديد/27). (ابن كثير). أما النصارى، فالإيذاء في دينهم حرام. (الرازي).

مع التنبيه إلى قول القاضي أبو يعلى رحمه الله: ربما ظن جاهل أن في هذه الآية مدح النصارى، وليس كذلك، لأنه إنما مدح من آمن منهم، ويدل عليه ما بعد ذلك، ولا شك أن مقالة النصارى أقبح من مقالة اليهود. (ابن الجوزي). يرد به جميع النصارى؛ لأنهم في عداوتهم المسلمين كاليهود، في قتلهم المسلمين، وأسرهم، وتخريب بلادهم، وهدم مساجدهم، وإحراق مصاحفهم، فلا ولاء، ولا كرامة لهم، بل الآية فيمن أسلم منهم، كالنجاشي وأصحابه. (البغوي).

س): لماذا عداوة اليهود أشد من عداوة النصارى؟

1: اليهود أكثر امتناعًا من الانقياد، فقد قيل لهم: {ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} (المائدة/21)، قالوا: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا}، والنصارى لما قيل لهم: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} (آل عمران/52)، قالوا: {نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ}، لكن من اليهود أيضًا قوم مهتدون، لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة، كالذين من النصارى، فلم يتعد حكمهم إلى جنس اليهود. (الآلوسي).

3: النصارى إذا سالموا، فسلمهم صاف، وإذا حاربوا، فحربهم مدافعة؛ لأن شرعهم لا يأمرهم بذلك، فحين غلب الروم فارس، سُرّ رسول الله ﷺ؛ لغلبة أهل الكتاب لأهل عبادة النار.

س): من كفره أشد: اليهود أو النصارى؟

كفر النصارى أغلظ من كفر اليهود؛ لأن النصارى ينازعون في الإلهيات وفي النبوات، واليهود لا ينازعون إلا في النبوات، ولا شك في أن الأول أغلظ، ثم إن النصارى مع غلظ كفرهم، لم يشتد حرصهم على طلب الدنيا، بل كان في قلبهم شيء من الميل إلى الآخرة، شرفهم الله تعالى، بقوله تعالى: { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ}، أما اليهود مع أن كفرهم أخف في جنب كفر النصارى، طردهم وخصهم الله بمزيد اللعن، وما ذاك إلا بسبب حرصهم على الدنيا، وذلك ينبهك على صحة قوله ﷺ: {حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ} (ضعيف). (الرازي).

س): {قِسِّيسِينَ}: ما معنى قسيس؟

القسيس هو العالم، وأصله من قس إذا تتبع الشيء، فطلبه. (القرطبي)

القس أيضًا رئيس من رؤساء النصارى في الدين والعلم، قال عروة بن الزبير رحمه الله: ضيعت النصارى الإنجيل، وأدخلوا فيه ما ليس منه، وكانوا أربعة نفر الذين غيروه: لوقاس، ومرقوس، ويحنس، ومقبوس، وبقي قسيس على الحق وعلى الاستقامة، فمن كان على دينه وهديه، فهو قسيس. (القرطبي)

س): {وَرُهْبَانًا}: ما معناها؟

الفعل منه رهب الله تعالى أي خافه، والرهبانية من الترهب وهو التعبد في صومعة. (القرطبي)، وعيب الرهبانية أنها غلو في تحمل التعبد في فرط الخوف، فقد كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا، وترك ملاذها، والزهد فيها، والعزلة عن أهلها، وتعمد مشاقها، حتى أن منهم من كان يخصي نفسه، ويضع السلسلة في عنقه، وغير ذلك من أنواع التعذيب، فنفاها النبي ﷺ عن الإسلام، ونهى المسلمين عنها. (الآلوسي).

س): كيف مدح الله تعالى الرهبان، مع أنه قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} (الحديد/27)، وقوله عليه الصلاة والسلام: “لا رهبانية في الإسلام” (حديث صحيح)؟

صارت الرهبانية ممدوحًة في مقابلة طريقة اليهود في القساوة والغلظة، ولا يلزم من كونها ممدوحة على الإطلاق. (الرازي).

س): ما الفرق بين القسيس والراهب؟

قال قطرب: القسيس: العالم بلغة الروم، فأما “الرهبان”: فهم العباد أرباب الصوامع. (ابن الجوزي).

س): {وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}: ما معناها؟

أي لا يستكبرون عن الانقياد إلى الحق. (القرطبي).

لا يستكبرون، مثال عليها: أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما، هاجرت إلى الحبشة مع زوجها، تنصر زوجها وهم في الحبشة، ولو أن هذه المرأة وافقت زوجها، من أجل مصالحها؛ لارتدت معه، لكنها بقيت مؤمنة متشبثة بإيمانها، فكانت مكافأتها؛ أنها أصبحت أم للمؤمنين بزواجها من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي أوكل النجاشي أن يخطبها له. وهناك حقيقة أن المرأة مستقلة في دينها عن زوجها، والدليل: امرأة فرعون، جعلها الله تعالى زوجة لفرعون، أكبر طاغية في الأرض، فهذا الطاغية بكل قوته وجبروته، لم يستطع أن يحملها على أن تعبده، بل قال الله عنها: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (التحريم/11)، فليس هناك امرأة تعصي الله إرضاءً لزوجها، وتقول: الذنب ذنبه، هو الذي طلب مني ذلك، هذا كلام مرفوض أشد الرفض، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. (النابلسي).

المصادر: جامع البيان: الطبري / القرآن العظيم: ابن كثير / الجامع لأحكام القرآن: القرطبي / مفاتيح الغيب: الرازي / الآلوسي: روح المعاني / زاد المسير: ابن الجوزي/ معالم التنزيل: البغوي / البحر المحيط: أبو حيان/ تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة: النابلسي.

دمتم بخير

فريق د. مجدي العطار

0 responses on "تساؤلات قرآنية: سورة المائدة: آية 82"

Leave a Message

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

من نحن

نحن فريق مشرف على موقع تعليمي الكتروني
ونقدم كافة الخدمات والدورات التربوية والتنمية البشرية

عدد الزوار

0456194
Visit Today : 165
Visit Yesterday : 1903
Total Visit : 456194
Total Hits : 6076345

المشتريات

top
جميع الحقوق محفوظة  © فريق د. مجدي العطار 2017- 2020