
قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (الملك/10). السؤال: لماذا هذا الشقي لم يسمع ويعقل الخير؟، فينقذ نفسه من السعير، ذكر العلماء أسباب كثيرة، من أهمها: الوهم، والذي ينشأ عن اضطراب نفسي، فالوهم يولده الخوف، والوهم يولده الطمع، والوهم يولده الغضب، فالوهم خطير جداً، مثلاً: هناك من يتوهم أن المال هو كل شيء، فيسعى إليه ليلاً ونهاراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ثم يكتشف عند الموت، أنه واهم، لا ينفعه إلا عمله الصالح.
الوهم يجعل صاحبه يظن بالله الظنونا، أما قال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا* إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا* وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا* إِلَّا الْمُصَلِّينَ}، والسؤال: كيف أعرف أن عندي وهم، الجواب: إذا كنت تارك أو مقصر بالصلاة، فأنت بالتأكيد لديك وهم، {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}.
أيها الإخوة الكرام، نحن في زمان، كثر فيه الوهم والواهمين من الناس، والحل مع النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “من أكثر ذكر الله، فقد برئ من النفاق” (الطبراني/ ضعيف)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (الأحزاب/41).
أيها الأحبة، الحب بأن تكونوا ربانيين!، والسؤال: من هو الرباني؟، قال العلماء: هو من تعلق بالله تعالى، أي نياته وأقواله وأفعاله لله وفي الله وإلى الله، قال حكيم: الناس ثلاث: رباني، وشيطاني، وشهواني، رباني متعلق بالله برب العرش العظيم، وشيطاني متعلق بالشيطان الرجيم، وشهواني متعلق بالشهوة الماجنة.
ومن أعظم مواقف الربانيين: موقف أبي بكر الصديق عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، رغم أن أحب الناس إلى النبي هو أبو بكر، وأحب الناس إلى أبي بكر هو النبي، انهار الناس، وثبت أبو بكر، وقال عبارة تلخص حال الربانيين: من كان يعبد محمدًا، فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت.
يا أيها الأخوة الأحباب، حتى تكون رباني، أول أمر، عليك بالعلم، فالجهل أكبر مصائبنا، قال الصحابي الجليل علي رضي الله عنه: قِوام الدين والدنيا أربعة رجال: عالم مستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا ضيع العالم علمه، استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بماله، باع الفقير آخرته بدنيا غيره.
والأخطر، الجهل المركب، أي جاهل ولا يعلم أنه جاهل، فمثلًا: عالم في الفيزياء، ينظر إلى نفسه أنا عالم، فيُقيّم الناس والآراء، ويقبل ويرفض على مزاجه؛ لأنه عالم، لكن أيها العالم، قد تكون جاهل في الدين، فإذا كنت يا عالم الفيزياء، لا تصلي، ما فائدة علمك؟، لقد ارتقيت بعلمك، فلماذا لم ترتق بإيمانك؟!، للأسف أصبحت جامعتنا، يدخلها الطالب جاهل متواضع، فيخرج منها جاهل متكبر!.
يقول أحد العلماء: ما وردت كلمة العلم في الكتاب والسنة، إلا وتشير إلى العلم بالله تعالى، ويقول أحد المعلمين: كنت أسأل طلابي في الثانوية: ائتوني باسم تاجر عاش في عام 1863م، ومن يعرف له علامة كاملة، فلا يستطع واحد منهم أن يجيب عن هذا السؤال، فأقول لهم: وأنا معكم لا أستطيع، لكن ممن منا لا يعرف الفاروق عمر بن الخطاب، من منا لا يعرف الإمام الشافعي، من منا لا يعرف البطل صلاح الدين الأيوبي، هؤلاء الذين عرفوا الله تعالى، فمكّن لهم أعمالاً جليلة تهز الجبال، هؤلاء أسماؤهم محفورة في ذاكرة الناس.
كان الإمام الشافعي رحمه الله، إذا رأى رجلاً سأل عنه، فإن كان صاحب علمٍ وعملٍ تركه، وإنْ كان عالِمًا فحسب، عاتبه الشافعي عتاباً مراً، وقال له: لا جزاك الله خيراً، لا عن نفسك، ولا عن الإسلام، ضيعت نفسك والمسلمين.
الخطبة الثانية:
قال صلى الله عليه وسلم: “لا تَقومُ السَّاعةُ، حَتَّى يُقبَضَ العِلمُ، وتَكثُرَ الزَّلازِلُ، ويَتَقارَبَ الزَّمانُ، وتَظهَرَ الفِتَنُ، ويَكثُرَ الهَرْجُ، وهو القَتْلُ” (صحيح البخاري)، ونحن مع حدث الزلزال، ندعو الله تعالى أن يتقبل شهدائنا، ويشافي مرضانا، ويجبر كسر ضعفائنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون، والسؤال: ماذا أضاف هذه الزلزال إلى حياتنا، ماذا أضاف هذا الزلزال إلى فعلنا للخيرات، وتركنا للمنكرات، وحبنا للمساكين.
تقول سيدة سورية حكيمة نجت من الزلزال: هذا الزلزال سببه نحن؟، لأننا لا نفكر إلا بأنفسنا، خسرنا بلادنا بالحرب، فتمسكنا بالدنيا أكثر، أين ذكرنا لله تعالى؟، أين صلة الرحم؟، أين قيامنا لليل؟، وهذه السيدة الصادقة الصابرة، استشهد زوجها بالحرب، ومصابة بالسرطان، سقطت أسنانها من المرض، وتسير على عكاز، لنعيد المشهد مرة أخرى: امرأة وحيدة، زوجها ميت، تعيش في حرب، نجت من زلزال، مصابة بالسرطان، ورغم ذلك تقول: الحمد لله، وأين نحن من “الحمد لله”؟!، قال صلى الله عليه وسلم: “مَن سَرَّهُ أن يستجيبَ اللهُ له عندَ الشدائدِ؛ فلْيُكْثِرِ الدعاءَ في الرَّخاءِ” (صحيح مسلم).
سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، ولا شكرناك حق شكرك، ولا قدرناك حق قدرك، اللهم عاملنا بما أنت أهله، ولا تعاملنا بما نحن أهله، اللهم تجاوز عنا بعفوك ومغفرتك، يا أكرم الأكرمين، عصيناك فسترتنا، نسيناك فذكرتنا، أغضبناك فرحمتنا، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
دمتم بخير
د. أبو عبيدة العطار
0 responses on "خطبة: كونوا ربانيين"